مقالات

سوريا بين إرهاب المركز وصناعة الأقاليم: قراءة في الإرادة الدولية الجديدة

 

منذ قرن كامل، كانت سوريا ساحة تجارب لإعادة تشكيل المنطقة. من سايكس – بيكو مرورًا بالانتداب الفرنسي، وصولًا إلى الاستبداد البعثي، ظلّ المركز الدمشقي هو المحور الذي يُدار منه الحكم ويُصادر فيه القرار. لكن اليوم، يواجه السوريون واقعًا جديدًا: دمشق لم تعد مركزًا للسيادة الوطنية، بل أصبحت أسيرة حكومة إرهابية يقودها أبو محمد الجولاني، في مشهد يُظهر كيف يمكن للقوى الدولية أن تُنتج “عدوًا في المركز” لتبرير إعادة تفكيك الدولة.

منطق صناعة العدو

القوى الكبرى تاريخيًا لم تكن تبني مشاريعها على الفراغ، بل على خلق “عدو داخلي” أو “مركز للفوضى”. ما حصل في العراق بعد 2003 مع تنظيم القاعدة، وما حصل في أفغانستان مع طالبان، يتكرر اليوم في سوريا. وجود الجولاني في دمشق ليس مجرد صدفة أو ضعف أمني، بل هو جزء من هندسة سياسية دولية:

إبراز العاصمة كبؤرة فوضى وإرهاب.

تسويق الأطراف كبدائل قابلة للحياة.

فرض واقع فيدرالي يخدم المصالح الاستراتيجية.

ولادة الأقاليم كخيار دولي

أمام عجز “المركز”، برزت ثلاثة مشاريع إقليمية باتت تحظى بدعم مباشر أو غير مباشر من القوى الدولية:

إقليم الساحل (وسط وغرب سوريا):

موقعه الاستراتيجي على المتوسط يجعله بوابة تجارية واقتصادية نحو أوروبا.

يُسوَّق باعتباره منطقة سياحية – اقتصادية يمكن أن تجذب الاستثمارات.

من منظور داعميه (روسيا وفرنسا بدرجة ما)، يمثل قاعدة استقرار طويلة الأمد.

إقليم الجنوب (درعا – السويداء):

يشكل حزامًا أمنيًا حساسًا على حدود الأردن وإسرائيل.

المجتمع الدولي يراه كمنطقة عازلة تخفف من تمدد الفوضى وتضبط التهريب.

يُطرح كإقليم “معتدل” قابل للتنسيق مع الجوار الإقليمي.

إقليم قسد (شمال شرق سوريا):

يملك الثروة النفطية والحبوب والمياه، مما يجعله إقليمًا استراتيجيًا.

الغرب (خصوصًا واشنطن) يراه نموذجًا “علمانيًا تعدديًا” يخدم سردية محاربة التطرف.

يضمن للولايات المتحدة نفوذًا طويل الأمد في قلب الشرق الأوسط.

فلسفة المشهد الجديد

إذا نظرنا براغماتيًا، فالمجتمع الدولي لم يعد يبحث عن “سوريا موحدة” كما كانت، بل عن سوريا مدارة عبر الأقاليم. المركز متروك للإرهاب ليبرر التدخل، والأقاليم تُدعم لتصبح بدائل “معقولة” للحكم.

إنها ليست ثورة، ولا مجرد حرب داخلية، بل إعادة هندسة سياسية – جغرافية:

المركز يتحول إلى “جحيم الإرهاب”.

الأطراف تتحول إلى “مختبرات الاستقرار”.

الشعب السوري، بكل طوائفه، يُستخدم مرة أخرى كأداة في لعبة الأمم.

الخلاصة

الحقيقة المؤلمة أن السوريين جميعًا، بمن فيهم العلويون الذين طالما صُوّروا زورًا كجزء من النظام، كانوا ضحايا. واليوم، مع حكم الجولاني للعاصمة، يُدفع السوريون نحو خريطة جديدة، حيث لا مركز واحد يحكم، بل عدة أقاليم تتقاسمها القوى الداعمة.

هكذا يكتمل المشهد: إرهاب في المركز، فيدرالية في الأطراف، ومجتمع دولي يعيد صياغة سوريا بما يخدم مصالحه لا مصالح شعبها.

بقلم المهندس اياد اسماعيل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى