مقالات

الجيش الهندي يعلن إطلاق عملية عسكرية في باكستان البداية بالباليستي..

محمد اليمني كاتب وباحث سياسي

مشكلة كشمير تعود في الأساس إلى أن نظامين من الأوضاع حكما شبه القارة إلى موعد رحيل البريطانيين أواخر الأربعينات من القرن الماضي. ثمة المناطق التي تخضع مباشرة للامبراطورية البريطانية، «الراج»، وثمة المناطق المتروكة للدول الأميرية، مئات الممالك، من أحجام متوسطة. ولما قام تقسيم الهند على أساس مسح ديموغرافي جغرافي، تذهب معه المناطق ذات الكثافة الإسلامية لباكستان، بجناحيها غير المتجاورين جغرافيا آنذاك، فقد ترك الخيار للدول الأميرية بأن تنتقي هل تنضوي في الهند أو في باكستان، وما كان هذا الخيار إلا ليطرح مشكلات عويصة وعديدة. فمن يقرر ضمن هذه الدول الأميرية؟ السلالات الحاكمة؟ أم الأكثريات الدينية – الإثنية داخلها؟ وهل لها الانضمام إلى أحد البلدين ولو لم تمتلك حدوداً معه؟ ولو لم تكن لديها إطلالة على السواحل أم لا؟ لم تكن هذه بعملية سهلة، ولا سلمية. في مملكة حيدر آباد «النظامية» حيث السلالة مسلمة، ومصاهرة لآخر خليفة عثماني، ما كان بالوارد السماح لهذه المساحة الواسعة من جنوب الهند كي تعلن نفسها لا كيانا مستقلا ولا جناحا ثالثا لباكستان. اعتمد لتقويض أركانها على الغلبة الديموغرافية الهندوسية داخلها. في كشمير، لجأت الهند إلى المنطق المعاكس تماما. الأكثرية كانت مسلمة، والماهراجا كان هندوسيا، وكان يتردد في الخيارات، ويطمح لنيل مرتبة دولة مستقلة. إنما عندما تحرك قسم من المسلمين، وحركت باكستان قسما من قبائل الباشتون باتجاه الوادي، حينها طلب الماهراجا هاري سينغ من الهند التدخل. في 26 تشرين الأول/أكتوبر 1947، وقع على وثيقة الانضمام إلى الهند، ما أدى إلى اندلاع الحرب الأولى بين الهند وباكستان حول كشمير. بعد ذلك، لم يعد له دور سياسي حقيقي، تم إلغاء الملكية عام 1952.
جواهرلال نهرو:
مع ذلك، كان للهند في زمن رئاسة وزراء جواهرلال نهرو، المتحدر من أسرة براهمانية من بانديت كشمير أساسا، فرصة في خمسينيات القرن الماضي لإقامة تفاهم مع زعامة بارزة داخل كشمير، تتمثل بالشيخ محمد عبد الله، الذي كان يعرف بأسد كشمير، وتشابه طروحاته ذات التوجه الاشتراكي ما كان يشجع عليه نهرو. لكن الشيخ عبد الله كان بحاجة إلى إقرار نيودلهي بخصوصية كشمير. وكان ذلك زمن ازدهرت فيه في كل الهند مطالب إقليمية مماثلة، عند أقوام عديدة كانت تسعى من أجل اعتماد الاختلافات في اللسان أساسا للفدرالية الهندية. تعاملت الحكومة مع كل هذه الحركات التمايزية الداخلية بحنكة، إلا حيال مسألة كشمير. جرى الارتياب من اتصالات الشيخ عبد الله مع الخارج. نصحت الأجهزة الأمنية نهرو بالتحرك. في اب/أغسطس 1953 تمت إقالة الشيخ عبد الله من منصبه كوزير أول للولاية واعتقاله بأمر من الحكومة المركزية. ضيّع نهرو فرصة تاريخية كبرى للتفاهم مع الكشميريين. بقي الشيخ عبد الله، ما بين إقامة جبرية وسجن حتى وفاة نهرو، ويروى أنه أجهش بالبكاء عندما علم بوفاة من كان سابقاً صديقه، ولاحقاً سجانه. ابنة نهرو، انديرا غاندي كانت أكثر حنكة على هذا الصعيد. في اللحظة نفسها التي انقلبت فيها داخل الهند على المؤسسات الدستورية وفرضت حال الطوارئ عام 1975، عقدت اتفاقا مع الشيخ عبد الله، ينص على أن كشمير جزء لا يتجزأ من الهند، ويعود بموجبه إلى الحكم كرئيس للوزراء في جامو وكشمير.
التزمت الهند بموجب هذا الاتفاق بعدم فرض تعديلات دستورية أخرى على وضع الولاية بدون موافقة حكومتها المحلية، وهو ما أطاح به حكم نارندره مودي عام 2019. يبقى أن انديرا عقدت الاتفاق مع «الشيخ» بعد أن هرم، وفقد شعبيته، وازدهرت مناخات «إعادة أسامة المسلمين» في معظم العالم الإسلامي، وخاصة في باكستان وأيضا في كشمير. الأفكار الاشتراكية التي اعتنقها الشيخ لم تعد شعبية. بل اتهمه الكثير من أنصاره السابقين بالخيانة السياسية، لأنه تخلى عن مطلب الاستفتاء لتقرير المصير. زادت الراديكالية في مواجهته، سواء تلك المنادية بالاستقلال، أو التي تحمل توجها أيديولوجيا إسلامويا. زاد الطين بلة مع صعود التيار القومي الديني الهندوسي في جنوب آسيا ككل، والتعامل التشكيكي بل الهجومي لهذا التيار مع أكثر من عشر مسلمي العالم يعيشون ضمن الأراضي الهندية. وإذا كانت زعامة الشيخ عبد الله قد فقدت بريقها مع تراكم السنين، فإن خلافة ابنه له على الزعامة الشاحبة كانت أضعف، ومرة جديدة، تعرض هذا الابن، فاروق عبد الله لضغطين في وقت واحد. المناخ العام بين مسلمي كشمير الذي يريد تحقيق تطلعاته القومية، أو شيئا منها، لكنه يريد أيضا إشعار هندوس الوادي بأنهم أقلية ضمن مجتمع إسلامي، وضغط حكومة نيودلهي في آخر حياة انديرا، قبل مصرعها. فانديرا التي واجهت بالعنف والدم التمرد الانفصالي للسيخ في البنجاب، وكان ذلك سببا لمقتلها على يد حارسها الشخصي السيخي، بدت أكثر تشددا حيال أي انتعاشة مستجدة للمطالب الانفصالية في كشمير. فكررت فعلة والدها. أطاحت بحكم فاروق عبد الله في كشمير عام 1984، فجر ذلك استياء شعبيا. حاول نجلها ووريثها السياسي – بعد مقتلها – راجيف أن يعيد تصحيح الأوضاع، بل زور انتخابات 1987 في كشمير لصالح فاروق عبد الله هذه المرة. وهنا أيضا تصاعد الرفض لسياسات حكومة نيودلهي أكثر فأكثر. ثمة تاريخ كامل من سوء التدبير حيال وضع كشمير لم تشذ عنه أي حكومة في تاريخ الهند. أدى ذلك نهاية الثمانينيات إلى انطلاقة التمرد المسلح، ومعه إلى مفارقة فرض نظام عسكري أمني كامل على وادي كشمير من جهة الهند، في مقابل تهجير هندوس الوادي إلى مدينة جامو التي يفصل بينها وبين الوادي 270 كلمترا من جبال الهيملايا الوعرة.
لم أشعر في أي من جولاتي الكشميرية، حيث الأكثرية سنية، مع وجود أقلية شيعية ملحوظة، من سرينغار الا بارامولا إلى غولمرك وبهالغام وسونمبرغ، ناهيك عن إقليم لاداخ – حيث المناصفة العددية بين البوذية والشيعة الإمامية – إلا بشعب طيب، مساعد، يتهم الكثير من أبنائه بأحوال المشرق العربي، و»يتحزبون»، هذا يضع صورة السيد حسن نصر الله في محله التجاري أو على جهاز محموله، وذاك يعرب عن انحيازه لأبي محمد الجولاني في سوريا.
في اليوم نفسه لوقوع مجزرة بهالغام تعرفت على شخص «عاشق حسين». سمي كذلك لانه ولد في الأيام الأوائل من شهر محرم. حتى هنا يمكن أن يستنتج «العقل اللبناني السوري» أن عاشق حسين شيعي. لكنه سني في وادي كشمير المحصور بين جبال الهيملايا والهندكوش. إذ لطالما اندمج في هذا الوادي التسنن بالتصوف بحب أهل البيت. لم تنقلب هذه الحال إلى يومنا، لأن التسرب الوهابي الصرف إلى كشمير بقي هامشيا، والنفوذ المودودي محدودا، فيما التوغل الديوباني كان أكبر، وبخاصة منذ تأسست دار العلوم الرحيمية – باندي بورا، في السبعينيات من القرن الماضي، وهي على صلة فكرية وروحية بدار العلوم ديوبند.
أعمال عنف طائفية:
في باكستان المجاورة، ارتبطت بعض الجماعات الديوبندية، مثل «سباه صحابة» و»لشكر جهنكوي»، بأعمال عنف طائفية ضد الشيعة، خاصة بعد الثورة الإيرانية عام 1979. في التسعينيات، خلال التمرد المسلح في كشمير، تعرضت المناطق الشيعية لهجمات من قبل جماعات سنية متشددة. مع الوقت صار الشيعة يميلون إلى مهادنة الحكومة الهندية أكثر، وفي المقابل يشعرون بالتماهي الرمزي – العاطفي مع إيران الخمينية أكثر. وليس مع باكستان، الدولة التي أسسها شيعي علماني، محمد علي جناح – ولد جناح على المذهب الاسماعيلي / الخوجة، ثم تحول إلى الإثني عشرية – وكان أول رئيس لها إسكندر علي ميرزا شيعيا أيضا (من البنغال)، وثمة اعتقاد قوي بأصول آل بوتو الشيعية، هذا قبل أن تتحول الدولة الباكستانية أكثر فأكثر إلى «سنية»، وتتخفف أكثر فأكثر من إرث جناح «العلماني» – وجناح للمفارقة، أراد بناء دولة علمانية للمسلمين على أساس تحويل الرابطة الدينية للمسلمين في شبه القارة إلى رابطة قومية فحسب.
التحول «السني» لباكستان جعل شيعة الهند، وضمنا شيعة باكستان، يتماهون وجدانيا مع إيران، بالإضافة للنوستالجيا لزمن الحكم الشيعي في شمال الهند: مملكة «نواب» اوده. امتد فيها حكم السلالة السيدية التي أقامها سعادت علي خان الأول، المعروف بلقب «برهان الملك»، هذه السلالة القادمة من إيران، من عام 1722 حتى 1856، وكانت عاصمتها في البداية في فيض آباد ثم انتقلت إلى لكهنو. تدعى النواب، لأن رأس السلالة فيها كان يرتبط بالولاء للامبراطور التيموري/المغولي – وسريعا تحولت «النوابية» إلى كيانية مستقلة.
ومع أن الخط الديوباندي لا يُعرف عنه تبني مواقف خاصة تجاه آل البيت تختلف عن المواقف السنية – الحنفية التقليدية، بخلاف الوهابية، الا ان ضغطها كان على التصوف الشعبي من ناحية، وجفائها للشيعة من ناحية أخرى.
في الهند، بالمناسبة، عندما نحكي عن الوهابية، لا نحكي عن الوهابية النجدية مباشرة، بل عن وهابية هندية. منها ما هو بالفعل كذلك: حركة الفرائضية، التي تأسست عام 1819 على يد حاجي شريعت الله في شرق البنغال. تشربت أفكار الوهابية النجدية «البدع القبرية والشركية». لكن الانكليز توسعوا في التوصيف، والصقوا توصيف الوهابية بالحركة الإصلاحية الإسلامية التي قادها شاه ولي الله في الهند 1703–1762. هو المعاصر لبداية الوهابية في نجد. كونه ركز هو أيضا على إعادة تحديد التوحيد وربطه بنبذ البدع ولا سيما زيارة الاضرحة. لكن شاه ولي الله لم يعرف عنه تحريم التوسل مطلقا. وكان على أية حال حنفيا في الفقه، ونقشبنديا في التصوف – يواصل الإصلاح داخل النقشبندية الهندية الذي سبقه اليه احمد السرهندي – المدافع عن منظار «وحدة الشهود» في وجه «وحدة الوجود».
الخط الديوباندي:
في باكستان، استطاع الخط الديوباندي أن يفرض نفوذه أكثر فأكثر مع الوقت. بخلاف حال كشمير الهندية. لم يستطع ان يفرض معادلته بشكل مطبق. لم تحدث قطيعة جذرية شاملة أو انقلاب نوعي في نمط التدين الشعبي، لم تستطع اجتثاث التدين البريلوِي-الصوفي المنتشر في الأرياف.
في باكستان، هذا التدين البريلوي – الصوفي / نسبة الى أحمد رضا خان البريلوي (1856–1921) / الاحتفالي بالموالد، والمشجع على زيارة الاضرحة والتبرك والتوسل تعرض لمحاصرة قوية، لكنه لا يزال قويا، من خلال القناة التي يعبر عنها حزب «تحريك لبيك باكستان». والبريلوية في باكستان متشددة على طريقتها. ولو أنها تهاجم من الديوباندية. الديوباندية تهاجم الباريلوية بدعوى الغلو في تقديس الرسول. لكن البريلوية ليست أقل من الديوباندية في باكستان مطالبة بإقامة دولة شريعة. في الهند اللعبة تختلف. منذ استقلال البلدين، والديوباندية اخذت تتحول إلى مدافعة عن فكرة الدولة العلمانية الهندية – ما دام الخيار الآخر هو أن تكون الدولة دينية هندوسية – أهون الشرين – لكن على ان لا يمس بنظام الأحوال الشخصية الخاص بالمسلمين. الهند اعتمدت قانون الزواج المدني لجميع المواطنين، لكن المسلمين ظلوا يتمتعون بالحق في نظام زواج وطلاق على حدة. ليس دون إثارة مشكلات. كمسألة الطلاق الشفوي، بالتلاتة. عام 2019 اعتبرت المحكمة العليا الهندية انها مخولة الفصل في الأمر وأقرت أن هذا النوع من الطلاق غير دستوري. المشكلة الاوسع أنه كل مرة يتهم فيها القوميون الدينيون الهندوس – الهندوتفا- بأنهم يريدون إقامة دولة ثيوقراطية في الهند – هندو راشترا – يجيبون: بل نريدها علمانية حقيقية، بإلغاء نظام الأحوال الشخصية الخاص للمسلمين!
الديوباندية تراث إحيائي سني هندي لكنه غير سلفي بالمعنى التقني للكلمة، لأنه متمسك بالفقه الحنفي، وليس نافيا للتصوف، لكنه مع ضبط التصوف وتنقيته (مع ميل لرفض زيارة الأضرحة). والديوبانديون تاريخيا انقسموا بين من أيد إقامة دولة للمسلمين منفصلة في الهند وبين من رفض ذلك أو ابتعد عن السياسة. أما «ازهر» التيار الديوباندي، دار العلوم، فلا تزال في ولاية أوتار براديش الهندية، وزرته قبل عشر سنوات. لكن، الديوباندية الباكستانية أسست لنفسها دار علوم جديدة بعد الانفصال، هي دار العلوم حقّانية على يد مولانا عبد الحق الحقّاني التي صارت تعرف لاحقا بأنها أكاديمية الجهاد. ومنها انبثقت حركة طالبان.
في مواجهة الديوباندية، حافظت النزعة البريلوية على قوتها في كشمير كما بين معظم مسلمي الهند. يدافع البريلويون عن التوسل بالنبي، بل ويتنبون مقولة ان النبي حي في قبره، ولديه علم الغيب، ويعتبر البريلوية شخصيات آل البيت أقدس الشخصيات بعد النبي، ويعتبرون محبة آل البيت من أركان الايمان ويعتبرون أهل البيت شُفعاء للمؤمنين، ويحتفلون بذكرى مولد كل من النبي والغمامين علي والحسين. بشكل عام، البريلوية أقوى في ريف كشمير، والديوباندية أقوى في سرينغار نفسها. بشكل عام أيضا، التصوف الباريلوي في كشمير لا يزال يحافظ على الحضور القوي لآل البيت فيه، وهو غير داخل في منافسة – كما في باكستان – بين الديوباندية وبين الباريلوية – أيهما أكثر قدرة على الظفر بدولة الشريعة؟
السمة الصوفية والحال هذه لا تزال تميز الإسلام الكشميري. مثلما أن أهل الوادي يبرزون على الدوام خصوصيتهم القومية اللغوية ليس فقط عن «الهند الهندوسية» بل عن باقي مسلمي شبه القارة أيضا، وخصوصا المتجاورين معهم تاريخيا من الباشتون ومن مسلمي البنجاب. في الوقت نفسه لا يمكنهم المكابرة على أن باكستان تشاركهم في الدين، وعلى أن الهند قد أمست أكثر فأكثر متماهية مع تحويل الهندوسية إلى دين قومي لها. لكنهم، من الجهة الثانية لا يمكنهم كذلك المكابرة على أن مقدار الهشاشة في بنية المجتمع والدولة بباكستان أعلى من مقدارها في الهند. هناك أكثر من إحداثية يجب أخذها بالاعتبار اذا. إنما يبقى انه، في وقت هناك طول الوقت مطالب بالتمايز المناطقي اللغوي بأشكال مختلفة في الهند، فإن سياسات نيودلهي تجاه كشمير ظلت ترفض، على اختلاف تعاقب الحكام وأنماط الخطاب، الإقرار بأنه ثمة بالفعل مسألة قومية كشميرية. هذا لصالح الرهان على رهن جل هذه المسألة في المعركة مع التطرف الإسلامي، أو في المواجهة مع باكستان اللدودة. نمط العنف المعادي للهندوس كهندوس في كشمير لم يخدم من هذه الناحية شعب كشمير أيضا، بالعكس، ساهم ولا يزال في تعطيل قدرتهم على تشكيل خطاب تحرري يوازن بين الخصوصية الثقافية الجغرافية وبين الأفق السياسي لها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى