مقالات

هل وقع ترامب في المصيدة ؟

محمد اليمني ياحث في الشؤون السياسية

لم أجد في كل ما قرأت عن الرئيس الامريكي –وما قرأته الكثير- أي مصدر ينفي عنه –وعلى اسس علمية محايدة- بعدين مركزيين في تركيبته السيكولوجية، أولهما النرجسية الحادة الى حد جنون العظمة وثانيهما غلبة النظرة التجارية البحتة على اي شأن من شؤون الحياة ، فالاوطان ليست الا عقارات ، والعلاقات الدولية ليس فيها الا البعد التجاري ،والقانون الدولي والقيم الانسانية لا مكان لها لا في خطاباته ولا في برامجه الحزبية او السياسية، وتغليب المصلحة الامريكية على اية مصلحة أخرى ودون حدود.
ان هذه السمات الشخصية والتي وجدت هوى لدى قطاع من مجتمع براغماتي يجعل من القوة سنام منظومته القيمية بل والمعرفية ، لم تغب عن خبراء خصوم الولايات المتحدة لاستثمارها ، ويبدو –طبقا للمراجع المختلفة – أن الرئيس الروسي بوتين وجد ضالته في ترامب ، بخاصة ان بوتين جاسوس محترف تلصص لفترة طويلة على خبايا اوروبا كلها وان كان تركيزه على الناتو بشكل اكبر، فكما جاء في مقال لمايكل موريل- نائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق- في نيويورك تايمز 2016 ما نصه ” لقد غذت التطورات في سياسات ترامب خلال فترته الاولى نظرية بين كبار الشخصيات السابقة في الاستخبارات الأميركية مفادها أن بوتن زرع ترامب ويستخدم خبرته كجاسوس للتأثير على الرئيس الأميركي المستقبلي، واضاف موريل : ” كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتن ضابط استخبارات محترفا، مدربا على تحديد نقاط الضعف في الفرد واستغلالها. وهذا هو بالضبط ما فعله في وقت مبكر من الانتخابات التمهيدية [للحزب الجمهوري في عام 2016] فقد لعب السيد بوتن على نقاط ضعف السيد ترامب من خلال مجاملته، وجاءت استجابته طبقا لحسابات بوتين تماما”.
ويشير تقرير استخباري زمن الاتحاد السوفييتي الى كيفية قيام المخابرات السوفييتية في عام 1985 بتحديث استبيان شخصي سري تم توزيعه بين ضباطها، ويوضح التقرير وبشكل مفصل خطوات تحديد وتجنيد الشخصيات الغربية،مع تركيز الوثيقة على استهداف “شخصيات بارزة في الغرب” بهدف “استدراجهم إلى شكل من أشكال التعاون معهاا … كعميل، أو عبر اتصال سري أو خاص أو غير رسمي”.

ومن المؤكد –طبقا للمراجع- ان الأمر لم يكن جهدا فرديا لبوتين بمقدار ما هو شبكة منظمة تديرها الكي جي بي السوفييتية(الروسية لاحقا) و يساهم كل طرف فيها بدوره ، وهو ما يتضح من مقال نشرته صحيفة كييف اليومية الاوكرانية وكتبه ” النور موساييف ” الذي كان يعمل سابقا في موسكو في المديرية السادسة لجهاز المخابرات السوفييتي ، حيث ذكر ” أن أهم نشاط للوحدة التي كان يعمل فيها هو تجنيد رجال أعمال من الدول الرأسمالية.” واضاف نصا ” لقد جندت هذه الوحدة دونالد ترامب، الذي كان آنذاك رجل أعمال يبلغ من العمر 40 عامًا، ومنحته الوحدة اسما مستعارا هو “كراسنوف”.(Krasnov).
وتعزز روايات اخرى هذه الهواجس، فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي تولى موساييف رئاسة الاستخبارات ورئيس لجنة الامن القومي الكازخستاني خلال فترتين منفصلتين (1997-1998 و1999-2001) في عهد الرئيس الكازاخي نور سلطان نزارباييف ، واشار في أقواله الى “إن دونالد ترامب وقع في فخ جهاز الأمن الفيدرالي الروسي وهو يبتلع الطعم بشكل أعمق وأعمق. ويتضح هذا من خلال العديد من الحقائق غير المباشرة المنشورة في وسائل الإعلام”، واضاف ” أن ترامب ينتمي إلى فئة “الأشخاص الذين يمكن تجنيدهم بشكل مثالي، لا سيما ان موسكو لديها مواد للمساومة والابتزاز مع ترامب”.
ومعروف ان كازاخستان شهدت اضطرابات سياسية ، ووقع خلاف بين موساييف و نزارباييف في عام 2007، مما اضطر الاول للفرار إلى النمسا.
لقد سبق أن اشرنا في مقال سابق أن ضابط المخابرات الروسي السابق يوري شفيتس(الذي عمل في الثمانينات في واشنطن) كان له الدور الاكبر في تجنيد ترامب خلال فترة الثمانينات ، وهو ما يتضح من قوله لصحيفة الغارديان البريطانية عام 2021″ إن ترامب “تم تجنيده” كأصل(أو رصيد) روسي منذ أكثر من 40 عامًا، وهو على استعداد لنشر وتكرار الدعاية المناهضة للغرب”، بل شبه شفيتس ترامب بشبكة التجسس البريطانية التي نقلت الأسرار إلى موسكو خلال الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة.
وفي عام 2017، نشر ضابط الاستخبارات الخارجية السابق كريستوفر ستيل( وهو من مؤسسي شركة أوربيس بيزنس إنتليجنس) تقريراً تضمن مزاعم مفادها أنه أثناء إقامة ترامب في موسكو لحضور احد العروض ، تم تصويره وهو في اوضاع جنسية فاضحة مع نساء روسيات ، وتم ابتزازه بهذا الملف الى جانب الغوايات المالية والتجارية ، وفي يناير/كانون الثاني 2017، عندما تولى ترامب منصبه لأول مرة، اشار تقرير استخباري رفعت عنه السرية من قبل وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الأمن القومي أن بوتن “أمر بحملة تأثير … لتقويض الثقة العامة في العملية الديمقراطية الأمريكية” وإلحاق الضرر بمصداقية هيلاري كلينتون التي نافست ترامب على الرئاسة، لكن هذه الشهادة التي قدمها ستيل لاثنين من عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي كجزء من تحقيق المستشار الخاص روبرت مولر في مؤامرة مزعومة بين حملة ترامب لعام 2016 وروسيا، لم تعط النتائج المرجوة ،وهو ما اتضح في أن مولر خلص من تحقيقاته في عام 2019 إلى عدم وجود دليل على وجود مؤامرة إجرامية بين حملة ترامب لعام 2016 وروسيا.(ولعل ذلك يفسر مخاوف ترامب من الاجهزة القضائية الامريكية ،كما يتضح في تغييره للمدعين العامين بشكل قل نظيره).
ومع ذلك، أثار بعض المسؤولين الأميركيين مخاوف متكررة بشأن العلاقة الوثيقة والملتبسة بين ترامب وبوتين، وخاصة خلال فترة ولايته الأولى في منصبه، وهو ما عبر عنه أنتوني سكاراموتشي، الذي شغل لفترة وجيزة منصب مدير الاتصالات في البيت الأبيض لترامب في عام 2017، حيث اشار إلى المؤامرة خلال حلقة حديثة من بودكاست The Rest Is Politics: US، فقد اشار إلى أن احترام ترامب لبوتن حير العديد من كبار مسؤوليه السابقين واضاف “أعتقد أن هناك” سيطرة “غامضة على الرئيس”. ولم يوضح سكاراموتشي ماهية هذه “السيطرة” لكنه اقترح أن العديد من المسؤولين السابقين في إدارة ترامب، مثل إتش آر ماكماستر وجيمس ماتيس وجون كيلي – واجهوا أيضًا صعوبة في فهم تقارب ترامب مع بوتن. وقال: “لا أعرف لماذا الأمر على هذا النحو. لم يستطع ماكماستر معرفة ذلك، ولم يستطع ماتيس معرفة ذلك، ولم يستطع كيلي معرفة ذلك، لكن موساييف يؤكد ان بوتين أوكل ملف متابعة ترامب لاحد اهم المقربين لبوتين دون ان يذكر اسمه.
وطبقا للتقارير الغربية، فان ترامب لا يعمل لوحده مع الروس، فقد تواترت الاخبار عن علاقات بين شخصيات امريكية وازنة ممن يرتبطون بترامب مع روسيا ، وقد تم تقسيم هذه الارتباطات الى ثلاثة أشكال:
1- ارتباط مباشر مع بوتين او عبر السفير الروسي في واشنطن ، وأهم هذه الشخصيات: Michael Flynn- JD Gordon- Jeff Sessions- George Papadopoulos -Michael Cohen
2- شخصيات تشابكت مصالحها مع شركات وبنوك حكومية روسية مثل: – Jared Kushner- Erik Prince- Roger Stone- Donald Trump, Jr
3- شخصيات ارتبطت بمصالح القطاع الخاص الروسي ولكن ضمن دائرة نفوذ بوتين او اجهزته الهامة: Alex Shnaider: Rex Tillerson Tevfik Arif- Carter Page- Felix Sater.- Paul Manafort- Wilbur Ross
ويمكن التعرف على طبيعة العلاقة بين هؤلاء وروسيا من خلال النماذج التالية :
1- دونالد ترامب: ليس فقط فريقه السابق والحالي لديهم علاقات بروسيا، بل إن الرئيس نفسه لديه علاقات أيضًا. فقد سافر إلى روسيا على نطاق واسع، وأجرى أعمالًا هناك كثيرًا، ولديه علاقات بمصالح روسية. على سبيل المثال، في عام 2008، جرى بيع عقارات للملياردير الروسي دميتري ريبولوفليف. واشترى ترامب قصرًا في بالم بيتش مقابل 41 مليون دولار، وبعد أقل من أربع سنوات ودون أن يستخدم القصر باي شكل ، باع ترامب القصر إلى ريبولوفليف مقابل 95 مليون دولار(أي كسب من هذه الصفقة المصنوعة حوالي 54 مليون دولار)، وفي اجتماع عقد في مايو 2017 في المكتب البيضاوي، قيل انه كشف عن معلومات سرية للغاية للسفير الروسي سيرجي كيسلياك ووزير الخارجية سيرجي لافروف، ومُنعت وسائل الإعلام الأمريكية من حضور هذا الاجتماع، ولكن سُمح لمصور روسي بحضور الجلسة، ونشر هذه الصور لاحقًا على وكالة الأنباء المملوكة للدولة الروسية.
2- مايكل فلين: طُلب من فلين، مستشار الأمن القومي السابق للرئيس ترامب، الاستقالة بعد أسابيع فقط من أدائه اليمين الدستورية. جاءت استقالته بعد أن تسربت أنباء عن تضليله لنائب الرئيس مايك بنس بشأن اتصالاته مع المسؤولين الروس، وتحديدًا السفير الروسي لدى الولايات المتحدة سيرجي كيسلياك، قبل تنصيب الرئيس ترامب. في هذه الاتصالات، ناقش فلين العقوبات التي فرضتها إدارة أوباما على روسيا – بينما كان الرئيس أوباما لا يزال في منصبه. وفي وقت سابق على ذلك ، صرح بأن الولايات المتحدة بحاجة إلى احترام حقيقة مفادها أن “روسيا لديها استراتيجيتها الخاصة للأمن القومي، وعلينا أن نحاول معرفة كيف نجمع بين استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة واستراتيجية الأمن القومي لروسيا”، مما أثار أسئلة مقلقة. واللافت ايضا انه في عام 2015، ألقى فلين تصريحات في حفل أقيم في موسكو لتكريم RT، الذراع الدعائية الروسية، حيث جلس بجوار بوتن. وقد قبل فلين مبلغ 33750 دولارا مقابل هذا الخطاب الذي ألقاه على قناة روسيا اليوم، ولم يبلغ بشكل صحيح عن المبلغ، وبالتالي أخفى المبلغ عن تلقيه مبلغا من حكومة أجنبية، وربما انتهك القانون في الوقت نفسه. واستمر فلين في الظهور على قناة روسيا اليوم كمحلل للسياسة الخارجية. وفي المجمل، تلقى فلين أكثر من 67 ألف دولار من شركات روسية قبل الانتخابات الرئاسية لعام 2016.
3- جيف سيشنز: أجرى سيشنز، المدعي العام للرئيس ترمب، محادثتين مع السفير كيسلياك خلال الانتخابات الرئاسية لعام 2016. ومع ذلك، خلال جلسات تأكيد لاحقة، ادعى أنه “لم يجر اتصالات مع الروس” عندما طلب منه السناتور آل فرانكن توضيح هذا الامر، وبمجرد ظهور تقارير عن اجتماعاته مع كيسلياك، تنحى سيشنز عن أي تحقيق في تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية لعام 2016، مما جعل العديد من المسؤولين يطالبون باستقالته.
4- ريكس تيلرسون: عمل تيلرسون، وزيرا للخارجية مع الرئيس ترامب، وسبق ان عمل في مشاريع الطاقة في روسيا لمدة عقدين من الزمن أثناء عمله في شركة إكسون. وقد وصف علنًا “علاقته الوثيقة للغاية” بالرئيس بوتن وحصل على وسام الصداقة الروسي في عام 2013، وهو أعلى وسام دولة يمكن أن يُمنح لأجنبي.
5- علاقة كوشنير مع سيرجي كوركوف (مدير بنك التنمية الروسي الحكومي) تمثل نموذجا آخر من هذه العلاقات المثيرة للريبة.
6- علاقة ابن ترامب مع الملياردير الروسي إيمين أغالاروف والذي زود ابن ترامب بوثائق لادانة هيلاري كلينتون خلال التنافس بينها وبين والده.
7- بول مانفورت :مدير حملة ترامب الاولى والذي اتهم بتلقي اكثر من 12 مليون دولار من الرئيس الاوكراني السابق( فيكتور يانوكوفيتش) المؤيد لروسيا، كما ارتبط بصفقات مع شركة الومونيوم روسية ،وهي الشركة التي يوليها بوتين عناية خاصة.وهو ما جعل قاضيا فدراليا يتهم مانفورت بالعمل ضد مصالح الولايات المتحدة.
8- علاقة كارتر بيج: وهو احد المرتبطين بمصالح واسعة مع شركة غازبروم الروسية، وعمل مستشارا لحملة ترامب الاولى.
9- علاقة تيفيك أريف وهي مجموعة عقارية روسية بمشاريع متعددة مع نشاطات تجارية لترامب.
10- علاقة وولبير روس: وزير تجارة ترامب الذي ارتبط ببنك قبرصي تُشكل الودائع الروسية فيه مركز الثقل في نشاطات البنك؟
واللافت للنظر ان الاف بي آي( FBI) الامريكية رفضت في فبراير 2017 طلبا من البيت الابيض بنفي ما يروج في العالم عن علاقات روسية مع رجال ترامب، وكأن المريب يكاد ان يقول خذوني.
فإذا اضفنا لكل ما سبق من معطيات هامة – لكنها ليست قاطعة- ، أن صورة ترامب لدى المجتمع الامريكي وبخاصة نخبه الفكرية وبعض المؤسسات الهامة مثل الكونجرس والمخابرات وبعض جماعات الضغط تبدو في تراجع طبقا لبعض استطلاعات الراي ، فإن مواقفه مع روسيا اصبحت مستهجنة من المجتمع الامريكي والاوروبي ، بل ان محاولاته تحطيم صورة التحالفات الغربية وخلق المشكلات والتشكيك بهذه العلاقات مقابل سعيه الدؤوب للتقارب مع روسيا أمر قد يعزز من هواجس الدولة الامريكية العميقة ، كما ان خطته لغزة كانت مثار سخرية عبرت عنها اغلب الدول الاوروبية عبر توصيفات بانها ” فضيحة أو سخيفة او غريبة…الخ .
أخيرا ،هل سيحلب بوتين بقرة ترامب الى ان يجف ضرعها، ام أن ثور الدولة العميقة سينطح هذه البقرة ليوقعها ارضا؟ انها احتمالات مفتوحة لكنها ترسم صورة غير وقورة للسياسة الامريكية خلال السنوات الاربع القادمة إنْ تُرك ترامب في منصبه حتى نهايتها ، لكنه قد لا يكملها..
اما السؤال المهم فهو: كيف سيتصرف العرب في ظل هذا الوضع الملتبس؟ هل سيستغلوا ذلك؟ هل يفكرون في تداعياته؟ بل هل هم متنبهون للأمر؟…ربما.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى