لبنان تحت ركام حرب ضروس بين طالبَي الانتصار!
محمد اليمني باحث في العلاقات الدولية
لن تتوقف الحرب الإسرائيلية على “حزب الله” في لبنان قريباً، فهي كما الحرب على “حركة حماس” في غزة، بدأت عندما حطّم بنيامين نتنياهو الساعة الرملية التي طالما تحكّمت بحروب دولته، ووضع مكانها “عقيدة الانتصار”.
ولم يكن غريباً، والحالة هذه، أنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية المحمي بقوى اليمين المتطرف، يتعمّد التصعيد النوعي في المواجهات، كلّما لاحت في الأفق، عناصر جدية من شأنها أن تؤدي إلى وقف الحرب المستمرة منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، فهو لا يتطلع إلى تسوية يمكن أن تفيد إسرائيل بل يصر على انتصار كامل لإخضاع العدو!
وليس سرًّا أنّ الفكر السياسي الذي يتأثر به نتنياهو، ومجموعة واسعة من اليمين الإسرائيلي، أسس له المؤرخ الأميركي دانيال بايبس الذي يصرّ على أنّ إسرائيل والمنطقة لن تعرفا السلام إلّا عندما تحقق إسرائيل النصر. وقد عرّف بايبس هذا النصر بأنّه يأتي، عندما يستنفد أعداء إسرائيل مخزونهم من الأسلحة العسكرية والأيديولوجية. هو يعتقد بأنّ التنظيمات التي لا ترى نفسها قد انهزمت ليس لديها ما يمكن أن يحفّزها على وقف دائم للقتال.
وتأسيساً على ذلك، تنشد الحكومة الإسرائيلية تحقيق الانتصار على “حزب الله”، مهما كبرت التضحيات وطال الزمن.
ووضعت إسرائيل، نصب أعينها، قبل أن تقرر إدراج الجبهة الشمالية ضمن أهداف الحرب، القدرات الكبيرة التي يملكها “حزب الله”، فهو بالإضافة إلى امتلاكه ترسانة ضخمة من الصواريخ والمسيّرات، أعد الميدان، بشكل ممتاز، لإدارة مواجهات برية قاسية مع الجيش الإسرائيلي، وأجرى ما يكفي من مناورات ليتمكّن من المواظبة على إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر في الجبهة الداخلية. كما أخذت هذه الحكومة في الاعتبار الصراع الدبلوماسي المحتمل مع عدد من الدول المعنية بلبنان، مثل فرنسا، والمواجهة المباشرة مع الأمم المتحدة التي لها قوات عاملة داخل المناطق التي يخطط الجيش الإسرائيلي لاحتلالها والقضاء على كلّ ما له صلة بـ”حزب الله” فيها، متوسلة الأسلوب الذي اعتمدته في مواجهة الأونروا في غزة، لاستعماله عند الضرورة ضدّ اليونيفيل “التي خانت مهمّتها” في لبنان.
ومن يدقّق في النهج الإسرائيلي المعتمد، يدرك أنّ الحكومة الإسرائيلية تستدعي “حزب الله” إلى هزيمة وليس إلى تسوية توفر عودة آمنة لسكان الشمال إلى منازلهم. وعليه، فهي تطارد قيادات الحزب أينما حلوا، وتعمل على تدمير بنيانه. وفي العملية البرية، جيشها لا يستعجل احتلال جزء واسع من جنوب لبنان، بل هو، وبتكتيكات لم يفعل مثلها في حرب تموز (يوليو) 2006، يعمل على “تنظيف” القرى التي يدخلها بأسلوب المسح الشامل، بحيث لا يُبقي أيّ بنية تحتية يمكن أن يستغلها المقاتلون في مرحلة لاحقة، وبطريقة توحي بأنّ ليس هناك أيّ استعجال على التوصل إلى حلّ من خلال الدبلوماسية. في الوقت نفسه، أدخلت وزارة الدفاع الإسرائيلية تعديلات على الأدبيات الخاصة بالحرب، فهي لم تعد تهدف إلى تأمين العودة الآمنة للسكان الذين تمّ إجلاؤهم من الشمال، بل باتت تطمح إلى تأمين ظروف آمنة “إلى الأبد”.
وفي هذا لا تبدو الحكومة الإسرائيلية وحيدة، بل يقف معها البيت الأبيض، حيث هناك رغبة باستئصال القوة العسكرية لـ”حزب الله” من كلّ لبنان، من أجل تمكين “بلاد الأرز” من إعادة تأسيس الدولة القوية فيها. ولذلك، فإنّ واشنطن، وعلى خلاف باريس، لم تعد تضغط من أجل وقف فوريّ لإطلاق النار، بل هي، وفق أدبيات وزير الدفاع فيها لويد أوستن، تريد من إسرائيل أن تنتقل من المسار العسكري إلى المسار الدبلوماسي “في أقرب وقت ممكن”، أي عندما تُنجز مهمتها!
ولكنّ إسرائيل ليست الطرف الوحيد في هذه اللعبة، فهي تواجه قوة لا تخضع هزيمتها للقواعد الكلاسيكية، فـ”حزب الله”، في المفاصل الحاسمة، يفعّل “عقيدة الانتصار” الخاصة به، حيث تبرز المعادلة الخمينية الشهيرة: “نحن ننتصر إن قتَلنا أو قُتلنا”.
و”عقيدة الانتصار” التي ينتهجها “حزب الله” تحتاج إسرائيل إلى قدرات هائلة للتفوّق عليها، لأنّها لا يمكن، بأيّ حال من الأحوال، أن تعترف بالهزيمة، وبالتالي فإنّ الانتصار على “حزب الله” يفترض توافر القدرة على “إزالته من الوجود”.
وفي حال أصرّت إسرائيل على أن تنتصر، وفق مفهوم دانيال بايبس، فسوف تبرز، من دون شك تعقيدات إقليمية ضخمة، لأنّ لـ”حزب الله” وجوهاً متعددة، ولعلّ أهمها على الإطلاق، وجهه الإيراني.
وما كان بالأمس موقع استهجان لدى البعض، عندما ذكرنا أنّ “المقاومة الإسلامية في لبنان” بعد اغتيال قياداتها اللبنانية وعلى رأسهم الأمين العام لـ”حزب الله”، تمّ وضعها تحت قيادة مباشرة من “فيلق القدس” الإيراني، أصبح اليوم مسلّماً به.
وليس من باب المزايدة، الاعتقاد بأنّ “فيلق القدس”، ومن أجل المصلحة الإيرانية، مستعد لأن يقود “حزب الله” إلى قتال طويل جداً، ولو اقتضى ذلك تكبيده واللبنانيين أفدح الخسائر، في مقابل ألّا يعترف بالهزيمة، لما لها من تداعيات على الجمهورية الإسلامية في إيران التي طالما اعتبرت الجبهة اللبنانية “عمقاً استراتيجيّاً” لها، وفق تعبير مرشدها علي خامنئي.
وعليه، فإنّ لبنان في هذه المرحلة يواجه حرباً بين قوتين مصرّتين على الانتصار بمفهومه الجذريّ: الأولى تملك القوة الهائلة والوقت، والثانية تملك قدرة الإيذاء والاستشهاد.