أربعة أطراف في صراعات المنطقة

محمد اليمني باحث في الشؤون السياسية
أربعة أطراف تتعامل مع الواقع الجديد الذي أفرزته حرب غزة لا يعول من بينها سوى على ما سيفعله الطرف العربي في قدرته على مناقشة أميركا والعالم وإقناعهم بجدية بحثه عن حلول لأنه المعني الأول، فيما الآخرون يسعون إلى تحقيق مشاريعهم وأوهامهم الخاصة.
اعتبرت إسرائيل، وهي طرف أول مؤثر، غزوة حركة “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023 هدية تتيح لها تدمير الشعب الفلسطيني وحقه في دولته المستقلة بصورة حاسمو ونهائية، وهي تعمل بالاستناد إلى حليفها القوي دونالد ترمب على مواصلة حربها في غزة بما ينسجم ويلاقي خطة الرئيس الأميركي في تفريغ القطاع من سكانه وتشريدهم نحو الأردن ومصر وغيرهما من الدول.
ويرى المسؤولون الإسرائيليون عشية مفاوضات المرحلة الثانية من اتفاق الهدنة مع “حماس” أن استئناف المعارك “يكاد يكون حتمياً”، ويقول وزير الدفاع في حكومة بنيامين نتنياهو يسرائيل كاتس إن “حرب غزة الجديدة” ستكون “مختلفة بشدتها”.
وبحسب صحيفة “يديعوت أحرونوت”، سيعمل الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب الجديدة على احتلال القطاع كله بصورة سريعة بواسطة فرقتين أو ثلاث فرق عسكرية، وسيُجمّع الفلسطينيون ضمن بقعة محاصرة قبل الانطلاق في عملية “تطهير” شاملة للمسلحين، وخلال ذلك ستقترح إسرائيل على “الفلسطينيين في الجيب الذي سيجمعون فيه أن يهاجروا”!.
وضمن هذا السياق، تلاقي الخطة الإسرائيلية مشروع ترمب، الطرف الثاني في التعامل مع نتائج الحرب الإسرائيلية، فترمب شغل العالم برؤيته للحل في فلسطين وهو لم يكَد يمضي أياماً في منصبه الرئاسي. والواقع أنه قبل مضي شهر على تسلمه رئاسة الولايات المتحدة الأميركية أثار في سلسلة قراراته ومشاريعه ارتباكاً دولياً طاول الحلفاء المفترضين أكثر مما أغضب الخصوم التقليديين في الصين وروسيا. فطالب بضم جزيرة غرينلاند الدنماركية واسترجاع قناة بنما وهدد بضم كندا لتكون الولاية الأميركية الـ51 وجعل خليج المكسيك خليج أميركا ولم يمانع في إعطاء أجزاء من أوكرانيا إلى روسيا وطرح احتمال أن تصبح كلها روسية، وأرسل نائبه جي دي فانس إلى مؤتمر ميونيخ ليعطي الأوروبيين دروساً في الديمقراطية.
وجاءت خطة ترمب لترحيل سكان غزة إلى الأردن ومصر وتحويل أرضهم إلى ملكية أميركية يبني عليها “ريفييرا” للآخرين ضمن هذا السياق من المفاجآت في سياسة الولايات المتحدة الخارجية، وكانت الفكرة في الأساس مطروحة في رؤوس القادة الإسرائيليين ويمكن أن نجد لها جذوراً في خطط استعمارية أجنبية لم ترَ الحياة، لكن مسارعة ترمب إلى طرحها بفجاجة قل نظيرها فاجأت الجميع بمن فيهم نتنياهو نفسه الذي كان يستمع إلى تصريحات الرئيس الأميركي عن رؤيته لمستقبل غزة.
وفي إسرائيل نفسها، لم يكُن غير دعاة التطهير العرقي الشامل يحلمون بـ”حل” على هذه الشاكلة، فقبل لقاء نتنياهو وترمب بأيام كان معهد بحوث الأمن القومي نشر توصياته للجهاز السياسي الإسرائيلي وما عليه القيام به بعد عودة الرئيس الجمهوري للسلطة ولم يتوقع هذا المعهد المدى الذي يمكن أن يذهب إليه هذا الرئيس، فاكتفى بدعوة القيادة الإسرائيلية إلى “إعطاء الأولوية لحوار استراتيجي شامل (مع إدارة ترمب) بهدف تشكيل واقع جديد في الشرق الأوسط مع التركيز على تعزيز السلام مع السعودية وإضعاف إيران، ويشمل ذلك ضمان توافق التطورات في سوريا ولبنان مع مصالح إسرائيل”.
وتوقع المعهد الإسرائيلي أن يقدم ترمب نسخة محدثة عن صفقة القرن التي عرضها في ولايته السابقة، لكنه لم يذهب في تصوراته إلى الحد الذي وصل إليه الرئيس الأميركي في طرحه لـ”اليوم التالي” في غزة عندما قفز فوق كل مشاريع الحلول التي طرحت خلال الحرب ومنها خصوصاً الذهاب إلى حل الدولتين الذي تبنته إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن وتدعمه دول أوروبية أساسية إضافة إلى الدول الكبرى في روسيا والصين والهند.
واعتبر بعض المراقبين أن خطوة ترمب تهدف إلى حض المعنيين في فلسطين وإسرائيل والدول العربية على البحث عن حلول عملية، أكثر مما هي خطة قابلة للتنفيذ، لكن إصرار الرئيس الأميركي على تكرار شرح فوائد توزيع الغزيين على مصر والأردن وتهديد البلدين بوقف المساعدات عنهما، جعلا الفصل بين الخطة والمناورة صعباً وفتحا الباب أمام قوى عالمية واسعة لتوجيه الانتقادات لرجل يقفز فوق مقررات الشرعية الدولية ويطيح بحقوق شعوب بأكملها، سيراً وراء نزوة سيحتاج تنفيذها إلى أنهار إضافية من الدماء والدمار، ليس في غزة وحدها، بل في الضفة الغربية المحتلة أيضاً، مما يدفع المنطقة بأكملها نحو موسم جديد من التوترات وصعود التطرف والمتطرفين.
والطرف الثالث في المعادلة الشرق أوسطية منذ اندلاع حرب غزة هو إيران الخمينية التي ستكون مسرورة بذهاب الجميع إلى حرب مفتوحة، فهي بعد الضربات التي تلقتها في غزة ولبنان والإطاحة بحليفها في دمشق لا تزال تتحدث عن انتصارات مشتركة مع “حماس” في القطاع ومع “حزب الله” في لبنان، وفي سوريا تحاول تنظيم “مقاومة” للسلطات الجديدة على رغم حديثها الدبلوماسي عن اتصالات غير مباشرة للتطبيع مع تلك السلطات ومن بينها المفاوضات التي تجريها مع روسيا في شأن سوريا.
لم يتغير شيء في العقل الإيراني نتيجة الخسائر التي لحقت بطهران في غرب آسيا ولم تحصل الانفراجة التي سعى إليها الإيرانيون في العلاقة مع أميركا، ولذلك فإن عودة للقتال في غزة بهدف تهجير أهلها وما يمكن أن يثيره ذلك من فوضى شاملة سيخلقان أرضاً خصبة مجدداً لتنشيط المشروع الإيراني القائم على خرق المجتمعات العربية وتأسيس منظمات تتحدى دولها تحت الشعار الديماغوجي إياه، “تحرير القدس ودعم الثورة الفلسطينية”.
بين العدوانية الإسرائيلية و”ريفييرا” ترمب ورهانات طهران على استعادة نفوذها، يتبلور رد عربي ينتظر أن يحدد في القمة العربية المقترحة في الـ27 من فبراير (شباط) الجاري رؤية عملية لمستقبل غزة وفلسطين والصراع الدائر في المنطقة. وبدايات هذا الرد كانت في الرفض السعودي العاجل لمشروع ترمب التهجيري من غزة وفي الموقفين المصري والأردني الرافضين لترحيل الفلسطينيين والعمل في المقابل على إعادة بناء القطاع ضمن خطة إعمارية شاملة.
وسيكون على الدول العربية التي ستجتمع في القاهرة الذهاب بالتفصيل إلى عمق المسائل الشائكة، فالوضع الانقسامي الفلسطيني لا يمكنه أن يستمر فيما مستقبل الشعب الفلسطيني بأسره مطروح على بساط البحث، كما أن استمرار “حماس” في صيغتها السياسية والعسكرية كطرف مهيمن على القطاع أمر يستحيل تمريره في الظروف التي انتهت إليها معارك الـ470 يوماً، مثلما أن الارتباط بإيران وتلقي التوجيهات والأموال منها لن يكون مستساغاً، لا عربياً ولا دولياً.
القرارات التي ستصدر عن القمة العربية الطارئة ستكون فاعلة بقدر ما تقترح معالجات حاسمة للوضع الفلسطيني تكون مرجعاً تستند إليه في طرحها لحلول اليوم التالي والتي بدورها ستستند إلى قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية. وكما هو واضح في القرارات والمبادرة، فإن قيام دولة فلسطينية مستقلة هو الشرط اللازم لقيام سلام شامل يمكن لترمب، إذا أراد، أن يسهم في تحقيقه ليستحق لقباً عزيزاً على قلبه هو أنه صانع سلام لا صانع حروب.