مقالاتيصنف رئيسي

هل نرى الأسد مجدداً في بكين؟

بقلم: أستاذ الدراسات الدولية في جامعة "صن يات سين" الصينية "شاهر الشاهر"

لم نكن ننتظر من الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس السوري بشار الأسد للصين نتائج أكثر مما وصلت إليه. اتفق البلدان على البدء بشراكة استراتيجية بينهما تعكس حجم التطور الذي وصلت إليه تلك العلاقة، وترسم رؤى مستقبلية لصياغة التعاون المشترك بينهما، فقد أصبحت سورية الدولة الخامسة التي تنسج علاقات استراتيجية مع الصين، بعد كل من روسيا وبيلاروسيا وباكستان وفنزويلا.

العلاقات السورية الصينية، وعلى الرغم من عراقتها، بقيت متواضعة لاعتبارات قد تكون خارجة عن إرادة كلا البلدين اللذين يتعرضان لحملة أميركية استهدفت وجودهما واستمراريتهما. لذا، بدآ بمراجعة جادة لتلك العلاقة لتقييمها والبحث عن مكامن الخلل فيها وتجاوز الصعوبات التي تشوبها، وبالتالي الانتقال بها إلى مستوى أكثر تقدماً.

وما يزيد من فرص نجاح تلك العلاقات هو الإرادة المشتركة لشعبي البلدين اللذين عبرا، وبما لا يدع مجالاً للشكّ، عن ارتياحهما لمدى التطور الذي تحقق بعد تلك الزيارة.

لا ينظر السوريون إلى الصين كدولة صديقة فقط، بل كحليف يمكن الوثوق به، ويعولون على المزيد من الانخراط الصيني في الأزمة السورية، وصولاً إلى مرحلة إعادة الإعمار التي تستطيع الصين تنفيذها.

وجود الصين يعني المزيد من البناء والتعاون الاقتصادي والكسب المشترك، وهو ما يعني الانتقال إلى مرحلة ما بعد الحرب في سورية، وصولاً إلى استعادة دورها ومكانتها على مستوى المنطقة والعالم.

سورية دولة صغيرة بجغرافيتها ومواردها، لكنها كبيرة بإرادتها وموقعها الجيوسياسي المميز الذي كان أحد أسباب الحرب عليها، وخصوصاً أن العالم يشهد ما يمكن أن نسميه “عودة الجغرافيا السياسية”، ليس لجهة خطوط الطاقة فحسب، بل جهة مرور الطرق البرية والبحرية التي تربط بين قارات العالم ودوله أيضاً.

ولعل أكبر هذه المشاريع هو مشروع “الحزام والطريق” الصيني الذي يربط آسيا بأوروبا وأفريقيا عبر شبكة من الطرق البرية والبحرية، وسورية هي إحدى الدول الواقعة على هذا الطريق البري الآتي من العراق، وصولاً إلى البحر المتوسط، ثم إلى أوربا.

لقد كان هذا المشروع أحد أسباب الحرب على سورية، التي كانت أرضاً لمشروعات القوى الكبرى المتنافسة والمتصادمة فيما بينها، وكان قدر السوريين دفع ثمنها.

وقد أدى المتطرفون الإرهابيون القادمون من مختلف أنحاء العالم، بمن فيهم الإيغور الصينيون، دوراً كبيراً في الصراع الدائر في سورية، بمعنى أن الأخيرة تقاتل من ترى فيهم الحكومة الصينية أيضاً خطراً وتهديداً كبيراً لها وللعالم.

في الآونة الأخيرة، طُرح مشروعان يشكلان تهديداً كبيراً لمشروع الحزام والطريق الصيني، هما “الممر الهندي”، وما يسمى “الحزام العشائري” الذي يستهدف قطع الطريق بين العراق وسورية من البوكمال إلى منطقة التنف، وهو ما يعني توقف طريق الحرير في العراق، وعدم قدرته الوصول إلى المتوسط عبر سورية، وخصوصاً في ظل عدم الثقة بين الصين وتركيا، بل ربما بين أكثر دول العالم وتركيا، نظراً إلى سياسة “القفز على الحبال” التي انتهجها الرئيس إردوغان.

تلك السياسة حققت لتركيا نجاحات كبيرة على الصعيد التكتيكي، لكنها رتبت عليها “فشلاً استراتيجياً” بات لزاماً عليها دفعه، بعدما خسرت الجميع.

تقارب وجهتي النظر السورية والصينية من تركيا

عانت سورية كثيراً في السنوات الماضية من الموقف التركي الداعم للمسلحين فيها، إذ وفرت أنقرة لهم المال والعتاد، وسهلت نقلهم من دولهم ومرورهم عبر أراضيها إلى سورية.

ومن بين هؤلاء الإرهابيين الإيغور الآتون من تركستان الشرقية، إذ سهلت السفارات التركية الموجودة في الدول الآسيوية منحهم الفيزا لزيارة تركيا، ومن ثم الانتقال إلى سورية. ترى تركيا أن هؤلاء جزء من الأمة التركية. لذا، فإنهم يرفعون العلم التركي نفسه مع اختلاف اللون من الأحمر إلى الأزرق.

هذا الموضوع يثير مخاوف الصين، ويسهم في توتر العلاقات بينها وبين أنقرة التي تسعى لتحقيق ما سمي بـ”رابطة الدول التركية”، التي تضم جميع الشعوب الناطقة باللغة التركية باعتبارها جزءاً من الإمبراطورية التركية الموعودة.

في الآونة الأخيرة، ونتيجة تعاظم دور تركيا بالنسبة إلى كل من روسيا والولايات المتحدة الأميركية بسبب الحرب في أوكرانيا وتداعياتها، فقد ضغطت موسكو على دمشق لحثها على فتح حوار مع أنقرة. هذا الحوار كان مفيداً لإردوغان في معركته الانتخابية، إذ سمح له بسحب ورقة اللاجئين السوريين من يد المعارضة، وهي الورقة المهمة التي كان منافسوه يمتلكونها.

الموقف السوري كان واضحاً: لا حوار مع أنقرة إلا بعد خروج قواتها من سورية، وهو مطلب طبيعي وشرعي، ولا يستطيع أحد مطالبة دمشق بالتنازل عنه. وعلى الرغم من ذلك، فقد لبت سورية رغبة الحليف الروسي في عقد لقاء على مستوى وزراء خارجية البلدين، بمشاركة روسيا وإيران، لكن دمشق ترفض مطلقاً عقد لقاء على مستوى الرؤساء إلا بعد انسحاب تركيا من الشمال السوري، وهو ما قد تؤيده الصين بقوة، فيما قد تترد موسكو في ذلك إرضاء لوجهة النظر التركية.

رسائل سياسية.. وتوظيف للقوة الناعمة

نجح الرئيس الأسد وعقيلته في إيصال رسائل مهمة إلى الشعب الصيني. تلك الرسائل لاقت صدى كبيراً لدى الشباب بشكل خاص ورواد مواقع التواصل الإلكترونية، وخصوصاً “تيك توك”. لعل أبرز تلك الرسائل (من وجهة نظر طلَبتي الصينيين في مرحلة الماجستير)، الزيارة التي قاما بها لمعبد ديني شهير في مدينة هانجو الصينية.

تلك الزيارة عبّرت عن التسامح الديني المتجذر في سورية واحترام معتقدات الآخر وعدم التدخل في خصوصياته، وخصوصاً في ظل ما يتعرض له الإسلام من حملة كبيرة تسعى إلى تصويره على أنه دين لا يقبل الآخر.

زيارة السيدة أسماء الأسد لكلية الدراسات الأجنبية في جامعة بكين كانت مدروسة بعناية ودقة، ودغدغت مشاعر الشعب الصيني، لجهة التعامل العفوي مع الطلبة من جهة، وطريقة اهتمامها باللغة العربية من جهة أخرى.

استطاعت السيدة أسماء الأسد الفوز بمحبة المستقبِلين، ونيل إعجاب أساتذة وطلبة قسم اللغة العربية في جامعة بكين بحديثها. وقد قدمت 10 منح دراسية للطلبة الصينيين الراغبين في زيارة دمشق والتعرف إلى تاريخها، وهو ما لقي استحساناً كبيراً لدى الشعب الصيني.

اعتزاز السيدة أسماء الأسد باللغة العربية لقي تناغماً كبيراً لدى الشعب الصيني المتمسك بتاريخه وثقافته وهويته، وبالتالي حققت الزيارة الهدف غير المعلن لها.

الجالية السورية وعودة الروح إليها

هنا، لا بد من حديث شاعري قد لا يلقى قبولاً لدى العديد من القراء، لكن الواقع فرض نفسه. استطاع الرئيس الأسد بث روح التعاون والتنسيق بين أفراد الجالية العربية السورية عند استقباله لها. بدا الرئيس الأسد والسيدة عقيلته مستمعين جيدين. لم يقاطعا أحداً، ولم يضعا خطوطاً حمراً للحوار معهما.

فضل الأسد أن يكون الحديث عفوياً بعيداً من الترتيبات الخاصة، وساعدته في ذلك طبيعة السيدة الأولى واقترابها من الناس. وقد عبّر الرئيس عن محبته وإعجابه بالبلد المضيف وما حققه من نجاحات كبيرة، كان قوامها التمسك بالتاريخ والثقافة وخصوصية المجتمعات.

أبدى الرئيس الأسد إعجابه بالجالية السورية المقيمة في الصين، لجهة الثقافة والسمعة الطيبة التي تتمتع بها، وقدم إجابات واضحة وصريحة وشفافة عن تساؤلات أفراد الجالية.

استمعا إلى ما طرح نحو ساعتين بتقدير وإعجاب ومحبة. وربما اللافت في الأمر أن أفراد الجالية السورية المقيمين في الصين لم تكن لديهم مشكلات خاصة، وهذا عائد إلى عمل السفارة السورية في بكين، وقدرتها على التواصل مع أفراد الجالية، وسعيها الدؤوب لحل مشكلاتهم وتذليل العقبات أمامهم.

غادر الرئيس الأسد والسيدة عقيلته بكين بعدما نجحا في تعزيز محبتهما في قلوب أقراد الجالية السورية. أيام جميلة لن ينساها الشعب الصيني خلال جولات السيد الرئيس وعائلته في المناطق العامة في الصين، واقترابهما من المواطنين الصينيين ومحادثتهم.

هل نرى الأسد قريباً في بكين؟

حققت زيارة الأسد لبكين نجاحات كبيرة منذ بدايتها وحتى الانتهاء منها، ويمكن باعتبارها زيارة “فوق بروتوكولية”، إذ أرسل الرئيس الصيني شي جين بينغ طائرة رئاسية خاصة لنقل الرئيس الأسد والوفد المرافق له، وتوجت بسلسلة من النشاطات “فوق الدبلوماسية” للرئيس الأسد والسيدة الأولى.

وكان لافتاً حضور عائلة السيد الرئيس بشكل كامل، والحديث عن رغبة أحد أبنائه في استكمال دراسته في الصين. كل ذلك ساعد في إيصال رسائل سياسية مهمة إلى الشعب الصيني، وأسهم في تعزيز علاقات التعاون بين البلدين.

الأيام المقبلة سوف تشهد انعقاد القمة الثالثة لمبادرة “الحزام والطريق” التي تضم أكثر من 150 دولة، و30 منظمة دولية. وقد أعلنت بكين أنها حصلت على تأكيد 110 دول حضور القمة المنتظرة، بمن فيهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

ستكون سورية حاضرة بكل تأكيد، ولكن هل يمثلها الرئيس الأسد في تلك القمة؟ لو حضر الرئيس الأسد، فسيكون هناك مزيد من الرسائل السورية والصينية للعالم، وإن لم يحضر، فكل الاعتبارات المنطقية يمكن أن تبرر له ذلك.

الثابت في الأمر أن العلاقات السورية الصينية قطعت شوطاً مهماً لجهة مأسستها، وضرورة الانتقال بها إلى المستوى الاستراتيجي الذي يلبي طموحات كلا البلدين.

المصدر: الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى